“بلادي هي الجزائر وعليها طوران حائر، وبغيت نروح لها زائر” منذ أن سمعتها – قبل عشر سنوات تقريبا- وأنا أشعر بعمق الحنين في نبرة مغنيها لهذا البلد الجميل، وبمودة له تداعب أحاسيسي، ولم يخطر ببالي يوما أني أزور الجزائر وتحديدا وهران أو الباهية أو وهرن كما ينطقها أهلها، وفي الفترة ذاتها سمعت كلمة لم أفهمها من دحمان الحراشي يقول: “يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي” كيف يكون هناك فعلان لهما نفس المعنى (تروح وتولي)، حتى كنا على مائدة الإفطار – الرمضانية- وحضر الحُلو، فقالوا لي: “حلي بش تولي”، فقلت في خاطري هذه الثانية بعد مشكلة الطائرة.
يوم طويل صمت فيه ثماني عشرة ساعة، وفي الطائرة جلس بجانبي رجل خمسيني بعمامته الجزائرية وجلبابه وما أن رآني أقرأ كتابا عن تقنيات كتابة الرواية حتى طلب الاطلاع عليه للحظة، فاتجه نحو فهرسه ثم الفصل الذي أراده وشرع في قراءته حتى أتمه بلهفة واستغراق، وأخذ يفكر فيما قرأ برهة، وجعل يتمتم بشكل عفوي: رائع، كتاب رائع، ثم انتبه أني بجانبه فالتفت إلي معتذرا ليعيد الكتاب يظنني تضايقت ولم يدر أن ما قد رأيتُ أسعدني.
وصلت إلى مطار الهواري بومدين بالعاصمة الجزائر، وخلال انتظار الأمتعة -التي تأخرت قليلا- أعجبتني كلمة”شكرا” مع اللون الأزرق الهادئ، وكيف أنها كانت أكبر في بروزها من العبارة التي يهدف إليها التصميم، ثم خرجنا إلى صالة الرحلات الداخلية، ومنها إلى وهران، وهنا تبدأ جولتنا في الجزائر.
بقي على أذان المغرب ساعتان حين وصلنا، وضعنا أمتعتنا في دار الضيافة، وتجهزنا لحضور دعوة الإفطار، ولا أخفيكم فلدي حساسية عالية تجاه الأكل، فلا آكل ما لا أعرفه أو أغامر بالتجارب، وساءلتُ نفسي برهة هل سيكون التمر هو صديقي الوحيد في هذه الرحلة أم؟
قدموا شربة الحريرة، وبوشيه باللحم، ومن المرعى قدموه لنا خروفا طيبا لذيذا كالزبدة، والأهم من هذا وذاك -لدي- هو الفاكهة اليانعة التي تشعر بخلوها من الكيماويات وتشم فيها عبق التربة الطبيعية، وأما المثل المغاربي: “حلي بش تولي” فمنه فهمت أن كلمة “تولِّي” بمعنى تعود وترجع، ففهمت كلمات الحراشي، ولا أنسى سمير الموائد والمآنس “التاي” الشاي الذي يطربك صوت صبه ويشجيك نسيم عطره ويمتعك مذاق طعمه.
واحد من أكثر الأمور التي شدتني في وهران تضاريسها الجميلة البديعة، وحُقَّ لها أن تسمى الباهية فهي اسم على مسمى، أسعدني أن إقامتنا كانت مطلة على البحر وكم في هذا من بديع تأمل وتفكر ووقت صفا كصفاء سمائه بل أرقى، ولحظات شجون مع إشراقة شمسه ومغيبها، كذا يلفتُ انتباهك مزيج الثقافة العمرانية الموجودة في المدينة، ومن الأفكار الجميلة أنكَ ترى على الجدران في بعض الطرق لوحات عليها إطار من الجبس، كل واحدة منها ترمز لثقافة من تاريخ الجزائر أو تنوع الأقاليم التي فيه.
الدرك الوطني للشرطة، والنُزُل للفنادق، والإقامة للسكن الخاص والقصور، وغيرها من الكلمات العربية الأصيلة تجدها في الاستخدامات الرسيمة عادة، لم تعد دارجة في كثير من الدول العربية، وليس العجب في هذا ولكن التباين الكبير بين التسميات والأسماء في تداول ونطق اللغة العربية، فالناس اتجهت عربيتهم لفظا ومضمونا، أو نغمة ومنطوقا للغات أخرى كالفرنسية، ولعل ذا إبّان الاستعمار لها والذي كلما طالت مدته بانت آثار ماخلفه في كل بلد، ولكن ماذا عن بلدان عربية لم يطأها الاستعمار العسكري، وتوشك خلال سنوات قليلة أن تصل لمرحلة الانفصال بين لغتها الأصيلة العربية وبين اللغات الأخرى المستخدمة كالإنجليزية، من الأفضل أن نفكر بشكل متسارع ونتحرك بخطوات سريعة، مادام في الوقت متسع.
ومن ضمن جولتي صعدت إلى حصن سانتا كروز ومرتفع يسمى مولاي عبدالقادر يطل على المدينة بمنظر بديع التقطت له بعض الصور، وكم من آثار وأماكن تستحق الزيارة لكن مالا يُدرك كله لا يُترك جُله، ومن أراد قراءة المزيد عن وهران يجده على الرابط. وأقتبس عبارة لابن خلدون عنها: “وهران متفوقة على جميع المدن الأخرى بتجارتها وهي جنة التعساء. من يأتي فقيراً إلى أسوارها يذهب غنياً”.
تلمسان، “لؤلؤة المغرب العربي”، لا أعرف من أين أبدأ! من نَسيمها الآنس وعَرفها الندي، أم من جمال تقسيمها وتداخل منازلها مع الأشجار الخلابة، صحيح أنها زيارة امتدت لساعات لكنها تركت أثرا وانطباعا جميلا عن المدينة، كيف لا! ومبانيها تكاد تسمعها وهي تنطق بمآثرها وتاريخها العريق إن أنتَ أنصت، ويفوح منها عطر الأصالة والحضارة إن أنتَ تشمّمت، وتجد على سبيل الذكر لا الحصر، مدرسة العباد أو المدرسة الخلدونية والتي أنشئت سنة 737هـ ومسجد بومدين.
ومنها ذهبت إلى مرتفع يقال له: “هضبة للا ستي” تطل على المدينة وبها أماكن للجلوس كمتزه عام، التقطت من أعلاها صورا جميلة للمدينة وصورة عابرة لي، ولفت انتباهي بناء فندق الشيراتون بالقرب منها في فترة زيارتي فلعله يكتمل قريبا.
تخامرني رغبة عارمة في العودة لزيارة أخرى لهذا البلد الذي يضم تسعا وأربعين ولاية، وأن تكون الزيارة القادمة للصحراء وبلاد الأمازيق، وقضاء وقت أطول في العاصمة ووهران وتلمسان، لأرى بعيني وأسمع بأذني، ولا أكتفي بما ينقله الإعلام الذي كم صور الأشياء مشوهة أو خلاف واقعها، وأقرأ بين أسطرها رسائل لمستقبل مشرق، “بش نحوّص” أي كي نفتش في جواهرها ومكنونها، وأتعرف على الناس عن قرب، ففي هذه الرحلة لم يسعف الوقتُ وأجواء رمضان أو سيدنا رمضان أن أتعرف عليها بشكل أفضل، وأخالطَ اهلها عن قرب.
وقبل أن أختم كلماتي لا يزال عالقا بذهني صوت الأهازيج حين دخلنا صالة المغادرة في المطار، وظننتُه عُرسا، فوجدت زفة من نوع آخر، أهازيج تدوي في صالة المطار فرحا مع دخول أقارب المودعين والمتجهين للعمرة في رمضان، شعور جميل، ترى في قسمات المسافرين سعادة طفولية بريئة، وفي أعين مودعيهم لهفة اللحاق بهم والشوق لأشرف بقاع الأرض.
هذه كانت تدوينة لخواطر عابرة من زيارة قصيرة للجزائر، وقد أضفت عليها 30 صورة أخرى من الرحلة على صفحة الفيس بوك، وختاما لا أقول ما يقوله المثل المغاربي: “مزية غير طلوا وراحوا، كان دخلوا لناحو”.
محمد السقاف
اترك تعليقاً | عدد التعليقات: (26)
[…] This post was mentioned on Twitter by محمد السقاف, محمد السقاف. محمد السقاف said: أيام في الجزائر, وهران وتلمسان http://fb.me/Hjl2gmfc […]
تقييم التعليق: 0 0
وااو
ايش نقول وايش نخلي
كلماتك والصور وتعبيرك أثارت فيا كل المشاعر
تقييم التعليق: 0 0
الأخت الكريمة آلاء، شكرا لتعليقك وأسعدني أن التدوينة قد أعجبتكِ.
موفقة إن شاء الله.
تقييم التعليق: 0 0
يقال ان في السفر خمس فوائد……
احببنا مدونتك لأنك تنقل لنا صوره جميله عن الأماكن التي تزورها مغايره عن مايروج له الإعلام باسلوب متميز..!!
فنضل متلهفين لتفاصيل زيارتك..ونهتم بادق التفاصيل التي ترويها لنا..
فالجزائر تاريخ وثقافه..وهران.. تلمسان(بيوماريا)……
بالتوفيق في زياراتك القادمه…
والف مبروك قبل الكل..!!
تقييم التعليق: 0 0
الأخ الكريم عبدالله ابن الحسين، أحبك الله وحبب خلقه فيك، يسعدني تواجدك وأ، فيما أكتبه ما أفادك وأعجبك.
موفق إن شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
شكراااا لزيارة بلدنا الحبيب فى المرة المقبلة يجب زيارة البليدة مدينة الورود
الي مازار((( البليدة مدينة الورد وجانت اجمل غروب فى الارض)))) كانو مازار….
بارك الله فيك
تقييم التعليق: 0 0
الأخت الكريمة ورده، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بحثت فوجدت هذه الصور عن البليدة http://bit.ly/duSjlD
شكرا للدعوة الطيبة وتعليقك، موفقة إن شاء الله.
تقييم التعليق: 0 0
أخي لو أخبرتنا قبل الزيارة كنا عملنا معاك الواجب
تقبل تحياتي
تقييم التعليق: 0 0
الأخ الكريم نبيل، شكرا للطفك وكرم أخلاقك، وصلت ضيافتك مع شكري.
موفق إن شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
تقرير رائع ومميز
لم تكن الجزائر في الحسبان
والان تغيرت نظرتي واتمنى
زيارتها قريبا
شكرا اخي
تقييم التعليق: 0 0
الأخت الكريمة غادة، شكرا لتعليقك وأسعدني أن التدوينة أضافت صورة أخرى للجزائر لديكِ.
موفقة إن شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
مرحبا أخي الكريم
أسعدني جدا وصفك لبلادي الحبيبة
كما أتمن أن تزورها مرة أخري ،
أرحب بك في ولاية ..جيجل سحر
الشرق ..أعذك أنك لن تندم علي الزيارة
شكرا لك . ومزيدا من الابداع
تقييم التعليق: 0 0
الأخت الكريمة شهيناز، شكرا لتعليقك والدعوة الكريمة وإن يسر الله زيارة أخرى أضع زيارة شرق الجزائر في جدول الرحلة.
موفقة إن شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
في الجــزائر يوجد 3 اشياء مميزة
تجذبك بسحرها … تجدها في الجزائر دون سواها
الطبيعة الخلابة ، الخضرة الجميلة والابداع الرباني على ارضه
المياه العذبة و البهاء
*حسن الوجه و الجمال
زرت وهران وتلمسان فقط
أما جبال الشريعة وجبال الشفة
في زرالدة وتيبازة وباب الزوار
في حيدرة والقبة والبليدة وتيزي وزو
ومن شرقها عنابة وقسنطينة وباتنة
وما أدراك ما جنوبها لوحات تنطق بالسحر والجمال
http://www.dailymotion.com/video/xc038v_alger-jijel2009-yyyy-yyyyyyy_travel
تقييم التعليق: 0 0
الأخت الكريمة فجر الياسمين، شكرا لإضافتكم الجميلة
وأرجو أن تتكرر زيارتي مرة أخرى، خالص الدعاء بالتوفيق
تقييم التعليق: 0 0
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مرحيا يك أخي الطيب محمد
و أهلا بك دائما في بلدك الجزائر
و أتمنى أن تزورنا مرة أخرى …
تقييم التعليق: 0 0
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أخي الكريم نسيم عبدالوهاب
شاكرٌ لك لطفك وكرم أخلاقك وبش نزوركم قريب إن شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
مرحبا وحمدالله على السلامة ايل
بصراحة تقرير ولا اروع بس ليته اطول ” طماع صح ” بصراحة كفيت ووفيت
الله يسعدك يارب
اسأل الله ان يبلغنا صيام يوم عرفة
وكل عام وانت بخير
:
عبدالله
تقييم التعليق: 0 0
الأخ الكريم عبدالله “كاتب الأنثى” الله يسلمك ويبارك بك
شكرا لك، دعائي لك بالتوفيق.
تقييم التعليق: 0 0
شكرا لهذه التدوينة التي عرضت لنا جانب من يوميات زائر للجزائر، فقط أريد التنويه إلى ان عدد ولايات الجزائر هو 48 وليس 49 .
بذكر 49 ولاية، هذه الكلمة متداولة كنكتة، وهذا لكون ولاية مارسيليا بفرنسا مليئة بالجزائريين المهاجرين، فأصبح البعض يناديها بالولاية 49 🙂
تقييم التعليق: 0 0
الأخ الكريم معمر، شكرا لك وللمعلومة الهامة، تم التعديل.
دعائي لك بالتوفيق والنجاح
تقييم التعليق: 0 0
سررت كثيرا لهذه الكلمات الجميلة عن بلدي الجزائر
شكرا لك وأهلا بيك مرة أخرى وبكل العرب في تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية
أخوكة علي الجزائري
تقييم التعليق: 0 0
أهلا ومرحبا بك أخي علي وبكل أهل الجزائر الكرام ومبارك عليكم “تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011”
موفق إن شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
اخى تعجز الكلمات على التعبير عما يدور بخاطرى فكلمة شكرا وحدها لا تكفى فحقيقة انت انسان فى غاية الانسانية حفظك الله من كل سوء .فلو تكلمنا نحن عن بلدنا لقالوا بلدهم فابتاكيد سيشكرونها لكن اتت من جاءت من انسان عزيز ومن بلد اعز .وبهذا كى يغير بعض العرب تللك الرؤية التى استاقوها من الاخبار فالجزائر بل د جميل. ونتمنى لك ان تقضى وقتا طويلا عندنا كى تتعرف على عدة اماكن اجمل مما رايت ايها الاخ. مرحبا بك ونتمنى ان لا تنزعج من بعض الاشخاص ان سببوا لك مشاكل فباتاكيد يوجد بعض الناس من ليسوا فى المستوى .كما ان الصور المنشورة جميلة لكنها لا تمثل كل الجزائر لانه يوجد ما هو اجمل بكثير
تقييم التعليق: 0 0
merci
تقييم التعليق: 0 0
[…] محمد السقاف مدونتي […]
تقييم التعليق: 0 0